بالنهاية يجمعنا البحر

Like408
Post
الصورة
بحر غزة

في النهاية كان يجمعني وهوَ عشقُ ألوان البحر في الصباح، أيقظه مبكراً، أساعده في ارتداء ملابسه، أتلمّس عروق ساعديّه وعضلات يديّه وأرجلهُ التي لا سيقان فيها، أداري دمعةً تتسلل من عيوني وأنا أطبعُ على رأسه قبلة الصباح، مساعدة عاجلة في الوصول إلى حنفية المياه..ويمسحُ آثار الأرجل التي أخذها الله على يد الإحتلال، إفطاره جاهز، قهوتهُ أضعها في الحقيبة، أدخلهُ إلى السيارة ثمّ أخرجه بصعوبةٍ حين نصل، أضعه على الكرسيّ المتحرّك في إتجاه الموج، ظهره إليّ وإلى عمارات غزة، أراقب التقاطه لنفسٍ كبيرٍ من هواء بحر المتوسط، شارع الكورنيش فارغ تماماً إلا منّا ومن كراسيه الحجريّة الباردة ولفحات نسمات آذار، أجلسُ بجواره.. يحدّثني عن مقاله الجديد في جريدة الحياة اللندنية، عن رسالة سفارة فلسطين في كندا ومنحهُ تأشيرة زيارتها أخيراً باعتباره بطلاً قومياً تحدّى الإعاقة ليحقق ما عجز عنهُ الأصحاء. يطلبُ مني أن أعيد ملئ الفنجان، أجثو على ركبتيّ أمامه، يمسح على وجهي بظهر يده ويستمرُ في إخباري كم هو محظوظ لأنني اخترته وكم يغرقُ في عيوني ويختنق لسبب لا يعرفه، أجيبه بدلال : 

- أنتم الكتّاب أنذال جداً! تستطيعون خطف قلوب محدثيكم وكأنهم خلاصة أملكم في هذه الحياة ثمّ يا حبت عيني يكتشفوا أنهم خدعوا ببعض العبارات المأنتكة الرائعة التي لن تتجاوز كونها عبارات.. ثم تعال هنا منذ متى طلبتُ منك تصليح قابس الثلاجة في المطبخ وانت تتجاهلني وتخبرني إنك لن تحتاج للثلاجة لتحفظ طعامك فأنا "كما تقول" طعامك وهواءك وأكسجينك.. فلينصرف الأكل طالما لامس يدايّ فهو لن يفسد أبداً! يا رجل من أين لكم بمثل هذا الكلام؟! وانا الغبية  صدقتك وتجاهلت الموضوع. 

يضحك وأضحك، ننظر إلى عيونِ بعضنا :

- بالأمس جاءت فاتورة الكهرباء، رقم صادم كالعادة وكأننا نمتلك مفاعل نووي في بيتنا، المصيبة أنها منذ بدايّة أزمة الست ساعات وصل - 12 قطع والرقم يتضاعف، لا بدّ أن تذهبَ لتلكَ الشركة اللعينة وخذني معك لأخنق كل موظفيها ونشعل فيها وبفواتيرها النار عليهم...اتركنا  نريح الشعب من قرف حكومة غزة وحكومة رام الله الذين يتعاملون معنا كألعاب.. أنا وياك نقوم بتوزيع الكهرباء للناس نيابة عنهم..

 يسكتُ فجأة، ويشيح ببصره لسببٍ أعرفهُ جيّداً.. أصرّ على إخباره بأنّ هذا قدرُ الله وأنني فعلاً سعيدة به، لا أريدُ أولاداً.. أنت ابني وزوجي وأخي وكل ما أردته في هذه الحياة. أخذوا منك قدرتك على الإنجاب؟ بسيطة! ربنا الذي يقسم الخلق وهو الذي بختار. ألم تخيّرني بين الطلاق وجوارك واخترتُ جوارك؟ لو أردتُ أولاداً لما كنت هنا الآن، يضعُ رأسي على صدره لعدة دقائق، انسلّ منهُ برفق لأحضر منديلاً لمسح دموعي ودموعه، يكملُ قهوته بصمت، أعيدهُ إلى السيارة وأوصله لمقرّ الصحيفة، بعد أن أخرجه أمام المبنى وأضعه على الكرسيّ يكملُ طريقهُ وحده، لا يلتفت إليّ، أمسكُ مقودَ السيارة وابحثُ عن طريقي إلى العيادة، أنا طبيبة العلاج الطبيعيّ هناك، سائدة تنتظرني في الغرفة لأبدأ جلستي معها، شابّة لا تتجاوز الـ 17 عامّ، ما زالت تعاني مشاكل في المشيّ بعد أن أخرجوها من تحت ردم ستة طوابق، عائلتها انتقلت إلى السماء وتركتها وحيدة، تعيشُ في كنف عمها الذي لا يطيقها على ما يبدو ويخنقهُ أنه مضطر للإهتمام بها لأنه قرابته الاولى  ولن يترك قرابته الاولى في الشارع للتلوق بألسنة الناسّ، أعود لاستمرَّ في حثّ "عُمر" على تحريك مفصل يده اليمنى حركات سريعة لأعلى ولأسفل وأنّ يكون رجلاً ويتحمّل الألم.. عضلاته ضمرت مع طول الإصابة وتحتاجهُ أن يكون شجاعاً لأجلها ولأجلّ أمه التي تبكي أكثرُ مما تتحدث بجواري، أبو صبحي المسن العابث صاحب السنّ الضحوك.. لديّه سنّ واحد فعلاً في فمه.. البقيّة أسقطها الزمن! أظلُّ أشرح له في كل مرة الفرق بين ديكلوفين الصوديوم والبوتاسيوم وأنّه لا يجوز أبداً أن يتناول الأوّل الذي يحضره إبنه معونة من إحدى العيادات لأنه مريض ضغط! والصوديوم سيرفع ضغطه ويدخله في نوبة لا تحمدُ عقباها، يقتنع على ما يبدو ويعود في الزيارة التالية ليسألني نفس السؤال!

أمرُّ على السوق في طريق العودة، أسعار البطاطا في ازدياد واضح، الأفوكادو ملمسه جميل، وسلطة الملفوف الأحمر بالمايونيز ستتحقق اليوم أيضاً، سأطبخ لي وله سمكتان تونة من خيرات ال15 ميلا بحريا جديدا سمح بها الإحتلال، توصلهُ سيارة الصحيفة إلى البيت، نتناول غداءنا، يشربُ الشايّ وينام.. أظلُّ أفكّر وأنا أتحسس شعرهُ البني الناعم في نظرية شريك الروح "Soulmate" وكيفَ أنّ الله يختارُ لكل روحٍ روحٌ تشبهها تماماً في الأفكار والمعتقدات، لها نفس الإهتمامات والهوايات، تحبُّ نفس الممثل الكوميدي وتكره أفلام الدراما.. نظرية سخيفة بصراحة! لا يجمعني وهو إلا البحر.. لكلٍ منّا عالمه الخاصّ الذي يعيشُ فيه لوحده ولكننا على أية حال نلتقي هناك! في أمواج البحر.. يهدرُ قلبه وعقله معها وأستند عليه برفق لنكمل ما بدأناه في هذه الحياة.. الإنسان

قصص
دولة فلسطين