الحب يا عزيزي من صنيع السامري

Like215
Post
الصورة
انفصال

علاقتي بالورد متوترة، أظنّ أنه يذكرني بالموتِ بطريقة ما..

في الزيارة الوحيدة التي خرجت فيها من غزة باتجاه الأراضي المحتلة مرافقاً لوالدي - قبل أن يتوفاه الله – كنت أستغلّ أوقات نومه في التجوّل في حديقة مستشفى أسوتا بحيفا.. أشتري كأس قهوة بثلاثة شواكل وأذرع الطرق الخضراء مجيئة وذهاباً، أراقب وجوهاً جديدة يندُر أن أختلط فيها من الناس، ألقي بنظراتي اتجاه الممرضات وانا اصطنع اللا مبالاة وأقارن بينهن وبين ما أراه في مستشفى الشفاء بغزة، أجلس بالساعات بين الزهور التي لا أعرف أسماءها، تضفي جواً مريحاً على برود المكان.. ومع هذا.. لم أحُبّ حيفا ولا هواءها ولا الطبيب الذي حاول أن يكون لطيفاً وهو يتلو عليّ تشخيص حالة سرطان والدي والتي كما قال بعربيته الركيكة أنها وصلت مراحل متقدمة لا يمكن للطب أن يقدم فيها شيئاً.. عدنا إلى القطاع بعدها بثلاث أيام.. ومات والدي في حضن أخي الأكبر بعد أقل من شهر وهو يلهج بالتسابيح والدعاء..

كرهتُ الحديقة.. والطبيب.. وحيفا.. وترسّخ الورد في ذهني علامةً لا تدل على الحُبّ.. بل الحزن العميق..

في عائلتي كنت الطفل الأوسط.. الكائن الهلامي الذي لا ينتبه إليه الناس.. أعيشُ وحدي دون اتصالٍ حقيقيّ مع محيطي الفيزيائي، أملك علاقة جيدة مع أختي التي تقاربني في العمر والتي بعد أن تزوّجت تركتني وحدي وانخرطت هي في معترك حياتها... أنهيتُ دراسة القانون في خمس سنوات بدل أربعة ولم يعلم أهلي بأنّي تأخرت سنةً كاملة عن خطتي الدراسية.. ولا أظنّ أن ذلك كان يندرج تحت دائرة اهتمامهم..

حياتي كانت تسير بنسقٍ تصاعديّ لم أنتبه إليه إلا متأخراً.. في البداية عملتُ في مركز حقوقي في غزة.. ثم أنهيتُ دراساتي العليا وأصبحتُ موظفاً في واحدة من أكبر المؤسسات الدولية في البلاد.. ومع هذا.. كل ما رأيتُ الورد تتسرب إليّ الذكرى وذلك الحزن العميق..

تكتشف في لحظة ما، أن دينك ناقص.. وأنك مسكين تعيش بنصف عقل ونصف دين.. وأنك يجب أن تستقر وتكوّن أسرة وتدخل في مشروعٍ إنسانيّ هدفه الحفاظ على نوعنا من الانقراض.. يطلق عليه العامة مفهوم "الزواج".

وللزواج مدارس.. أدناها حُب الصبا.. وأعلاها زواج الصالات و أوسطها زواج الصالونات..

أنت ممتاز طالما لم يتملك فضول معرفة كنه المدارس أعلاه.. لكن لو كنت غبياً وقررت أن تفهم المقصود من كل واحدة منها فحتماً لن تعجبك النتيجة..

تصل إلى قناعة "النصيب".. وأنه لم يفتك قطار الزواج المزعوم بعد.. وتقرر أن تصبر لعلّ الحياة تصدمك بما تستطيع احتماله

رأيتها أول مرة صدفة في إحدى المؤسسات... تتفاهم مع أحد الأطفال.. لم أنتبه إليها ولم تنتبه إليّ.. أنهيتُ زيارتي في المكان ثم خرجت من المؤسسة... في الطريق الواصل من شمال غزة إلى جنوبها صارت ملامحها تتسرب إليّ.. الأمرُ يشبه طعم ورائحة الفراولة الحلوة وهي تذوب في فمك.. لكنها لم تكن تذوب في فمي.. كانت تذوب في دماغي.

بعدها بيومين قررتُ الاستسلام.. اتصلتُ بصديقي الذي يعمل طبيباً في إحدى المستشفيات وأخبرته برغبتي في رؤيته، دعاني إلى فنجان قهوة في نفس المكان الذي صادفتها فيه.. لم تكن موجودة.. غمرني إحساس الخيبة والتعاسة.. حتى رأيتها وقد دخلت الغرفة فجأة! .. زال الوجع من قلبي.. واكتشفت أن المذكور له وظيفة أخرى غير التي خلقه الله لأجلها.

مرة أخرى قررت أن أكون غبياً وأن أعترف لصديقي أنه وقع في قلبي شئ لهذه الفتاة وأنني لا أنوي شيئاً أقل مما حدده الشرع. تملكتني الشجاعة وتملك صديقي الغبيّ الحماس، سألته عنها وتبرع بإخباري بأنها وزميلاتها في المؤسسة غير مرتبطات.. أما هي فكانت تتجول مثل الطبيب الملاك تمسك بأجنحتها يد العجزة وتتلوعليهم كلماتها الرقيقة فتجعلهم أصحّاء من جديد.

يبدو أنني أحرجتها بنظراتي فاختبأْت في مكان ما، خجلتُ من جرمي وقررت الانصراف على أن أعود.

كانت تحتلني احتلالاً، تمثل انتداباً سامياً لم أملك إلا أن أخضع لقوانينه.. استعماراً لطيفاً لا ترغبُ في مقاومته.. ومع غمرة الشجاعة التي أغرقتني قررتُ وأنا ذاهب في طريقي أن أتوقف عند أقرب محل يبيعُ الورد، أطفأت محرك السيارة وتجرّأت ودخلت المكان. لماذا تعتريني هذه المشاعر المتناقضة كلما رأيت الورد؟ سألتُ صاحب المحل ماذا كنت ستقدم لفتاة تريدُ أن تكون زوجتك، ضحك كثيراً.. نظرت إلى ملامحه، كان رجلاً كهلاً شعره أشيب تماماً وذقنه حديثة الحلاقة وشاربه كث جداً ولا يوجد إلا سنّ أو اثنين في فمه.. ومع هذا بدت ضحكته مشجعة للغاية.. أحضر لي زهرتين توليب كلفت رصيدي البنكي 12 شيكل أي ما يعادل دينارين أردنيين أو ثلاثة دولارت تقريباً.. المهم..

تركتُ الوردتين على كرسي الخلفيّ للسيارة ودخلت المؤسسة.. توجّهتُ إليها مباشرةً وطلبت بلهجة بدى عليها جدية الحديث في موضوع ما.. ومع شعوري الداخلي أنها ستحرجني إلا أنها استجابت.

خرجنا الى الباب واستأذنتها لأحضر الوردتين.. حينما رأتهما بدت على وجهها ملامح الدهشة، كان صدري لحظتها وكأنه سينفجر ولكنه ظل في مكانه.. سألتني : ما السبب؟ وما الذي أفعله؟.. أخبرتها متلعثماً برغبتي الجدية في الزواج.. ابتسمتْ بأدب واعتذرت لأنه على حسب علمها الموضوع "لن يعجب زوجها".. آه والله زوجها..

دقيقة تقريباً.. أكثر بقليل.. مليون سنة ضوئية وأنا أرتجف.. وجهي يذوب من حمرة الخجل.. أحاول أن أحلل الحدث.. أنظر بعصبية إلى الوردتين.. أجمع ما تبقى مني وأحاولُ أن أعتذر من الفتاة.. تبتسم بهدوءٍ وترحل.. أنظر إلى الوردتين مرة أخرى.. أتخيل شكل غبائي.. صديقي الغبي المتحمس الذي نطق بما لا يعرفُه.. أرتبُ الأحداث من جديد.. تدور الدنيا من حولي، أحاول أن أجلس على أقرب كرسيّ.. أنتبه أنني فقدت إدراكي بالوقت والمكان، ساعة ربما.. أكثر..

خاتم.. كان ترتدي بإصبعها خاتم

أشغلُ السيارة وأمضي.. أتذكرِ أسوتا.. وممرضات حيفا.. أكتشفُ أنني عدتُ إلى البيت وأنا أحمل الوردتين.. تتلقفني أمّي.. تشعر بالفرحة وتبكي وتحتضنني وتشكرني لأنني تذكرت اليوم عيد ميلادها

*تمّت*

 

بقلم Osama Naim

مدونة
دولة فلسطين